فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {إنّ إبراهيم كان أمّةً}.
فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يُعلّم الخير، قاله ابن مسعود وإبراهيم النخعي. قال زهير:
فأكرمه الأقوام من كل معشر ** كرام فإن كذبتني فاسأل الأمم

يعني العلماء.
الثاني: أمة يقتدى به، قاله الضحاك، وسمي أمة لقيام الأمة به. الثالث: إمام يؤتم به، قاله الكسائي وأبو عبيدة. {قانتًا لله} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: مطيعًا لله، قاله ابن مسعود.
الثاني: إن القانت هو الذي يدوم على العبادة لله.
الثالث: كثير الدعاء لله عز وجل.
{حنيفًا} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: مخلص، قاله مقاتل.
الثاني: حاجّا، قاله الكلبي.
الثالث: أنه المستقيم على طريق الحق، حكاه ابن عيسى.
{ولم يَكُ من المشركين} فيه وجهان:
أحدهما: لم يك من المشركين بعبادة الأصنام.
الثاني: لم يك يرى المنع والعطاء إلا من اللَّه.
{وآتيناه في الدنيا حسنة} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أن الحسنة النبوة، قاله الحسن.
الثاني: لسان صدق، قاله مجاهد.
الثالث: أن جميع أهل الأديان يتولونه ويرضونه، قاله قتادة.
الرابع: أنها تنوية الله بذكره في الدنيا بطاعته لربه. حكاه ابن عيسى.
ويحتمل خامسًا: أنه بقاء ضيافته وزيارة الأمم لقبره.
{وإنه في الآخرة لمن الصالحين} فيه وجهان:
أحدهما: في منازل الصالحين في الجنة.
الثاني: من الرسل المقربين.
قوله عز وجل: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} فيه قولان:
أحدهما: اتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وهذا دليل على جواز الأفضل للمفضول لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.
الثاني: اتباعه في التبرؤ من الأوثان والتدين بالإسلام، قاله أبو جعفر الطبري.
قوله عز وجل: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه}.
وهم اليهود وفي اختلافهم في السبت ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن بعضهم جعله أعظم الأيام حُرْمَةً لأن الله فرغ من خلق الأشياء فيه.
الثاني: أن بعضهم جعل الأحد أعظم حُرمة منه لأن الله ابتدأ خلق الأشياء فيه.
الثالث: أنهم عدلوا عما أمروا به من تعظيم الجمعة تغليبًا لحرمة السبت والأحد، قاله مجاهد وابن زيد. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}.
لما كشف الله تعالى فعل اليهود وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم، أراد أن يبين بُعدهم عن شرع إبراهيم والدعوى فيه أن يصف حال إبراهيم ليبين الفرق بين حاله وحال قريش أيضًا، و{أمة} لفظة مشتركة تقع للعين والقامة والجمع الكثير من الناس، ثم يشبه الرجل العالم أو الملك أو المنفرد بطريقة وحده بالناس الكثير فيسمى {أمة}، وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه السلام {أمة}، قال ابن مسعود: الأمة معلم الخير، وكان معاذ بن جبل أمة قانتًا، وقال في بعض أوقاته إن معاذًا كان {أمة قانتًا} فقال قرة الكندي أو فروة بن نوفل: ليس كذلك إنما هو إبراهيم، فقال أتدري ما الأمة، هو معلم الخير وكذلك كان معاذ يعلم الخير ويطيع الله ورسوله، وقال مجاهد: سمي إبراهيم {أمة} لانفراد بالإيمان في وقته مدة.
قال القاضي أبو محمد: وفي البخاري أنه قال لسارة ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك، وقال بعض النحويين، أظنه أبا الحسن الأخفش: الأمة فعلة من أم يؤم فهو كالهُزْأة والضحكة أي يؤتم به.
قال القاضي أبو محمد: ف {أمة} على هذا صفة، وعلى القول الأول اسم ليس بصفة، والقانت المطيع الدائم على العبادة، والحنيف المائل إلى الخير والإصلاح، وكانت العرب تقول، لمن يختتن ويحج البيت حنيفًا، وحذف النون من لم يكن لكثرة الاستعمال كحذفهم من لا أبال ولا أدر، وهو أيضًا يشبه النون في حال سكونها حروف العلة لغنتها وخفتها وأنها قد تكون علامة وغير ذلك، فكأن لم دخلت على يكن في حال الجزم، ولا تحذف النون إذا لم تكن ساكنة في نحو قوله: {لم يكن الذين كفروا} [البينة: 1]، ولا يحذف في مثل هذا إلا في الشعر فقد جاءت محذوفة، وقوله: {من المشركين} يشير إلى تبرؤ حال إبراهيم عليه السلام من حال مشركي العرب ومشركي اليهود إذ كلهم ادعاه ويلزم الإشراك اليهود من جهة تجسيمهم، و{شاكرًا}، صفة لإبراهيم تابعة ما تقدم، والأنعم جمع نعمة، و{اجتباه} معناه تخيره، وباقي الآية بين، وقوله: {وآتيناه في الدنيا حسنة} الآية، الحسنة لسان الصدق وإمامته لجميع الخلق، هذا قول جميع المفسرين وذلك أن كل أمة متشرعة فهي مقرة أن إيمانها إيمان إبراهيم وأنه قدوتها وأنه كان على الصواب، وقوله: {لمن الصالحين} بمعنى المنعم عليهم أي من الصالحين في أحوالهم ومراتبهم، أو بمعنى أنه في الآخرة ممن يحكم له بحكم الصالحين في الدنيا، وهذا على أن الآية وصف حاليه في الدارين، ويحتمل أن يكون المعنى وأنه في عمل الآخرة، فعلى هذا هي وصف حالي في الدنيا الدنياوية والأخراوية.
وقوله: {ثم أوحينا إليك} الآية، الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم بهذا من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم، قال ابن فورك وأمر الفاضل باتباع المفضول لما تقدم إلى الصواب والعمل به و{أن} في قوله: {أن اتبع} مفسرة، ويجوز أن تكون مفعولة، والملة الطريقة في عقائد الشرع، و{حنيفًا} حال، والعامل فيه الفعلية التي في قوله: {ملة إبراهيم}، ويجوز أن تكون حالًا من الضمير المرفوع في {اتبع} قال مكي: ولا يكون حالًا من إبراهيم، لأنه مضاف إليه: وليس كما قال لأن الحال قد تعمل فيه حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال، كقولك مررت بزيد قائمًا، وقوله: {إنما جعل السبت} أي لم يكن من ملة إبراهيم وإنما جعله الله فرضًا عاقب به القوم المختلفين فيه، قاله ابن زيد، وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يومًا مختصًا بالعبادة وأمرهم أن يكون الجمعة، فقال جمهورهم: بل يكون يوم السبت لأن الله فرغ فيه من خلق مخلوقاته، فقال غيرهم: بل نقبل ما أمر الله به موسى، فراجعهم الجمهور فتابعهم الآخرون فالزمهم الله يوم السبت إلزامًا قويًا عقوبة لهم منه، فلم يكن منهم ثبوت بل عصوا فيه وتعدوا فأهلكهم، وقرأ الأعمش: {إنما أنزلنا السبت}، وهي قراءة ابن مسعود وقرأ أبو حيوة {جَعَل} بفتح الجيم والعين.
قال القاضي أبو محمد: وورد في الحديث أن اليهود والنصارى اختلفوا في اليوم الذي يختص من الجمعة فأخذ هؤلاء السبت وهؤلاء الأحد فهدانا الله نحن إلى يوم الجمعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه»، فليس الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف الذي في الحديث، وباقي الآية وعيد بين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}.
دعا عليه السلام مشركي العرب إلى مِلّة إبراهيم؛ إذ كان أباهم وباني البيت الذي به عِزهم؛ والأمّة: الرجل الجامع للخير، وقد تقدم محامله.
وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: بلغني أن عبد الله بن مسعود قال: يرحم الله معاذا! كان أُمّة قانتا.
فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إنما ذكر الله عز وجل بهذا إبراهيم عليه السلام.
فقال ابن مسعود: إن الأمّة الذي يعلّم الناس الخير، وإن القانت هو المطيع.
وقد تقدم القنوت في البقرة و{حنيفا} في الأنعام.
قوله تعالى: {شَاكِرًا} أي كان شاكرًا.
{لأَنْعُمِهِ} الأَنْعم جمع نِعْمة، وقد تقدم.
{اجتباه} أي اختاره.
{وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} قيل: الولد الطيب.
وقيل الثناء الحسن.
وقيل: النبوّة.
وقيل: الصلاة مقرونة بالصلاة على محمد عليه السلام في التشهد.
وقيل: إنه ليس أهل دين إلاّ وهم يتولّوْنه.
وقيل: بقاء ضيافته وزيارة قبره.
وكل ذلك أعطاه الله وزاده صلى الله عليه وسلم.
{وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين}.
{مِن} بمعنى مع، أي مع الصالحين؛ لأنه كان في الدنيا أيضًا مع الصالحين.
وقد تقدم هذا في البقرة.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}.
قال ابن عمر: أمِر باتباعه في مناسك الحج كما علّم إبراهيمَ جبريل عليهما السلام.
وقال الطبري: أمِر باتباعه في التبرؤ من الأوثان والتزين بالإسلام.
وقيل: أمِر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه؛ قاله بعض أصحاب الشافعي على ما حكاه الماوردي.
والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع؛ لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
مسألة:
في هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول لما تقدم إلى الصواب والعمل به، ولا دَرَك على الفاضل في ذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم السلام، وقد أمِر بالاقتداء بهم فقال: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90].
وقال هنا: {ثم أوحينا إِلَيْكَ أنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}.
قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} أي لم يكن في شرع إبراهيم ولا من دينه، بل كان سَمْحا لا تغليظ فيه، وكان السبت تغليظًا على اليهود في رفض الأعمال وترك التبسط في المعاش بسبب اختلافهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقال: تفرغوا للعبادة في كل سبعة أيام يومًا واحدًا.
فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فاختاروا الأحد.
وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من الاختلاف؛ فقالت طائفة: إن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة وعيّنه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فناظروه أن السبت أفضل؛ فقال الله له: دعهم وما اختاروه لأنفسهم.
وقيل: إن الله تعالى لم يعيّنه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعينت اليهود السبت؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق.
وعينت النصارى يوم الأحد؛ لأن الله تعالى بدأ فيه الخلق.
فألزِم كلّ منهم ما أداه إليه اجتهاده.
وعيّن الله لهذه الأمة يوم الجمعة من غير أن يَكِلَهم إلى اجتهادهم فضلًا منه ونعمة، فكانت خيرَ الأمم أمة.
روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة ونحن أوّل من يدخل الجنة بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له قال يوم الجمعة فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى» فقوله: «فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه» يقوّي قول من قال: إنه لم يعيّن لهم؛ فإنه لو عيّن لهم وعاندوا لما قيل {اختلفوا}.
وإنما كان ينبغي أن يقال فخالفوا فيه وعاندوا.
ومما يقوّيه أيضًا قوله عليه السلام: «أضل الله عن الجمعة مَن كان قبلنا» وهذا نص في المعنى.
وقد جاء في بعض طرقه «فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم اختلفوا فيه» وهو حجة للقول الأول.
وقد روي: «إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تَبَعٌ».
قوله تعالى: {على الذين اختلفوا فِيهِ} يريد في يوم الجمعة كما بيناه؛ اختلفواعلى نبيّهم موسى وعيسى.
ووجه الاتصال بما قبله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمِر باتباع الحق، وحذر الله الأمة من الاختلاف عليه فيشدّد عليهم كما شدّد على اليهود. اهـ.